لَمحَةُ نَقدٍ- بين المتنبي وعنترة

السلام عليكم… 

ومرحبًا بكم في لمحةِ نقد

هذه مقابلة سريعَةٌ بين قصيدةِ: وا حرَّ قلباهُ للمتنبي، وقصيدةِ: لا يحملُ الحِقدَ لعنترة.

ولمن لا يعلم، عنترةُ بنُ شدّادٍ من شعراء الجاهليّة وكانَ قبلَ المتنبي بمئات السنين.

في القصيدتين – من وِجهة نظري-  تشابه كبير، فقد وَقَعتُ على مُلاحظَاتٍ لا أظنّها جاءت عفوًا ولا أعتقد أنها قُصدَت بها السرقة، وإنما ربما من باب الانتفاع من الصور والأساليب الشعرية.

وهذا يكون بين الشعراء.

فأنا لا أتهم المتنبي كما اتهمه البعضُ وإنما أحببت فقط ألا يُغبَنَ حَقُّ عنترةَ في ذلك لأن بعض الأبيات التي اشتُهرت للمتنبي لها أصل في شعر عنترةَ بطريقة أو بأخرى.

فبدايةُ التشابهِ تكمن في كون القصيدتين على البحر البسيط وأنّ رويَّهما مضمومٌ. 

الآنَ ما لفت نظري وجعلني أرجع إلى القصيدتين وأقارن بينهما هو قول المتنبي المشهور في قصيدته: 

ألخَيْـلُ وَاللّيْـلُ وَالبَيْـداءُ تَعرِفُنـي *** وَالسّيفُ وَالرُّمحُ والقِرْطاسُ وَالقَلَـمُ

فعندما كنتُ أقرأُ قصيدةَ عنترَةَ وجدته يقول في آخرها: 

وَالنَّقعُ يَومَ طِرادِ الخَيلِ يَشهَدُ لي ***  وَالضَّربُ وَالطَّعنُ وَالأَقلامُ وَالكُتُبُ

فانظر إلى التشابه الكبير، أعني ذكرَ القلم والأقلام والقرطاس والكتب والسيف والرُّمح في مقابل الضرب والطعن وكذلك الخيلِ التي وردت في هذا البيت ووردت في غيره في القصيدة نفسِها في قولهِ: 

وَالخَيلُ تَشهَدُ لي أَنّي أُكَفْكِفُهَا… وقولِه ما زِلتُ أَلقى صُدورَ الخَيلِ… إلى آخرِ البيت.

وانظر إلى استخدامِ التعاطفِ بين الأشياءِ المذكورة على النّحو نفسِه بشكل بارز وكذلك المعنى في قول المتنبي (تعرفُني) وقول عنترةَ (يشهد لي). 

هذا ما جعلني أرجع إلى القصيدتين لأجد أبياتًا أخرى توضّح التأثر الكبير للمتنبي بقصيدة عنترة  فوقعت على البيت قبلِ الأخيرِ في قصيدة عنترةَ الذي يقول فيه: 

فَالعُميُ لَو كانَ في أَجفانِهِم نَظَروا *** وَالخُرسُ لَو كانَ في أَفواهِهِم خَطَبوا

وهذا المعنى موجود تمامًا في بيت المتنبي المشهور:

أنَا الذي نَظَـرَ الأعْمَـى إلى أدَبـي *** وَأسْمَعَتْ كَلِماتـي مَنْ بـهِ صَمَـمُ 

فهنا استخدمَ عنترةُ العُميَ والخُرسَ والمتنبي الأعمى والأصم. والملفتُ للنظرِ أن القصيدتين جاءتا في معرِض المدح للذات، فقسم كبير من أبيات القصيدتين فيه مدحٌ للذات وانتصارٌ لها وتمجيد

وهذا تشابه في الغرضِ الشعري كذلك.

وأكثرُ ما لفتني بيتان مشهوران أحدهما في قصيدة عنترةَ حيث يقول:

 إِنَّ الأَفاعي وَإِن لانَت مَلامِسُها *** عِندَ التَقَلُّبِ في أَنيابِها العَطَبُ

والآخرُ في قصيدة المتنبي:

إذا رَأيْـتَ نُيُـوبَ اللّيْـثِ بـارِزَةً *** فَـلا تَظُـنّـنّ أنّ اللّيْـثَ يَبْتَسِـمُ

وبالمناسبةِ فإن كُلًّا من البيتين جاء في معرِض المدح للذات والتحذير من خطورتها، ولم يستخدمهما الشاعران في معرِض الذَّمِ كما تفعل العامّةُ حيث يستشهدون بهما على من كان طبعُه التقلّبَ وعلى المنافق الذي يُبدي ما لا يُبطن.

فعنترة كان  يتكلم معَ غريمِه يقول له:

اليَومَ تَعلَمُ يا نُعمانُ أَيَّ فَتىً *** يَلقى أَخاكَ الَّذي قَد غَرَّهُ العُصَبُ

إِنَّ الأَفاعي وَإِن لانَت مَلامِسُها *** عِندَ التَقَلُّبِ في أَنيابِها العَطَبُ

أي لا تغترَّ يا نعمان بحسن شكلي ونعومة تصرفاتي لأنني حين أتبدّل ستعلم من أنا. هذا البيت استخدم فيه عنترةُ حاسَّة اللمس ليُبيّن أنْ ليس كلُّ ملموسٍ يوحي ملمَسُه بحقيقته.

أمّا المتنبي فقد أتى بالمعنى نفسهِ وفي معرِض مدح الذات لا كما تستخدمه العامّة أيضًا للذمّ والتحذير من الآخر، فقال:

وَجاهِلٍ مَـدّهُ فِي جَهْلِـهِ ضَحِكـي *** حَتَّـى أتَتْـه يَـدٌ فَـرّاسَـةٌ وَفَـمُ

إذن الضحك هنا ضحك المتنبي ثمّ أردف ذلك بقوله:

إذا رَأيْـتَ نُيُـوبَ اللّيْـثِ بـارِزَةً *** فَـلا تَظُـنّـنّ أنّ اللّيْـثَ يَبْتَسِـمُ

وقد وصف نفسَهُ بالليثِ وهو الأسد واستخدم التمثيلَ بالحيوان كما فعل سالفُهُ لكنّه عدل إلى حاسةِ النظرِ عن حاسةِ اللمسِ فقال: إذا رأيت.. يعني أنّ الأمورَ لا تكون دائما على ما تبدو عليه فقد تكون مغايرةً وأنّ الأشياء التي تبدو جميلة أو ناعمة أو مبتسمة قد يكون وراءَها العطبُ والأذى والرّدى… 

لفتني ذلك

فأحببت مشاركةَ محبي الشعرِ هذه اللمحةِ

وأختِمُ بقول إبراهيم البساطي في مقدمته لكتاب الإبانة عن سرقات المتنبي لأبي السعد العميدي..

يقول:  “على أنّ المتنبي وإن كان قد أخذ من غيره من الشعراء بعض المعاني إلا أنه في كثير من الأحيانِ قد كساها جمالا وصاغها في أجمل صيغة، وأفاض عليها كثيرا من الروعة، ولذلك سارت أبياته وذاعت.”

وإلى لقاء آخر مع لمحةِ نقدٍ جديدة بإذن الله… والسلام عليكم  

وكتبها شادي المرعبي

في شوال من العام 1445 هـ

قم بكتابة اول تعليق

اترُك تَعلِيقًا

لَن يَتُمَّ نَشرُ بَرِيدِكَ الإلكترُونِي فِي العَلَن