حكاية صاحب البستان والزّنابير الزّرق

في ليلة حالكة الظلام، استطاع الغرباءُ أن يجمِّعوا بعض الزّنابير الزّرق ويسمحون لها بأن تبني كُورًا في بُستانِ فلاح بسيط. استيقظ الفلّاح ليجد نفسه في مأزقٍ كبيرٍ، فالوصول إلى بعض أجزاء البستان صار أمرًا خطيرًا عليه وعلى عائلته ممّا اضطره إلى تجنّب هذه الأجزاء وطلب المساعدة من إخوته وأبناء أعمامه والجيران الذين رغم حميّتهم ومحاولة مساعدتهم له لم يكن ذلك بالقدر الكافي لجعل الزّنابير تتراجع أو تفكّر بالخروج.

استمرّ الوضع بالتأزّم، فالزنابير لم تكتف بتلك الأجزاء، بل جعلت تبني أكوارًا جديدة هنا وهناك وتلسع من يمرّ من الأبناء – ولو خطأً – من ناحيتها من شدّة خوفها منه وحرصها على إرهابه بالقوّة. حتّى وجد الفلّاح نفسه محاصرًا في بيته لا يستطيع الخروج منه إلى البستان.

عاد الفلّاح ليستنجد من حوله، يرسل إليهم الرسائل، يناديهم عبر النّوافذ، يتّصل بهم ولكنهم – كعادتهم – كانوا يحاولون إمداده ببعض الطعام والشراب والملابس والمُبيدات الحَشريّة من النّوافذ دون إعانته بالأسباب الكافية التّخلّص من هؤلاء الزّنابير أو طردهم.

سبعون ليلةً مرّت والحال على ما هو عليه، وبدأت الزّنابير تحتلّ البيتَ غُرفةً غرفة حتى اضطرّوا العائلةَ إلى المكوث في أضيق الغرف آخر البيت، ضمن ظروف صعبة جدًّا تُفقِد الإنسان لذّة الحياة ومُتعةَ الأمل.

ذات ليلة، وبعد أن ضاق أحد الأبناء ذرعًا بالوضع الراهن، قرّر أن يخرج ببسالة يحاول أن يطرد الزّنابير ويكسر إبرهُم ويزرع الأمل في قلوب عائلته… كان يأمل إن نجح بذلك أن ينتفض إخوانه وأبناء عمومته وجيرانه لنصرته ودعمه بما يحتاج ليُكمل المسيرة. وبالفعل استطاع تحرير سبع غرف من المنزل والقضاء على بعض الزّنابير وطرد بعضها إلى البستان. كان يعلم أنّ الزّنابير لن تسكت وأن غضبها سيكون أشدّ لكنّ الخيارات المتاحة لم تكن كثيرة، كان لا بدّ من محاولة تغيير الموازين.

استيقظ الزنابير في صباح اليوم التالي على هرج ومرج… كيف تجرأ ذلك الابن على فعلته؟ كيف يفكّر بإخراج الزنابير من بيت أبيه وبستان العائلة؟ وبدؤوا بالبكاء والعويل ليستجلبوا نصرة الغرباء وسكوتهم عمّا سيقومون به، وامتطوا التهديد والتهويل ليخيفوا المحيطين بالبستان من الأقارب والجيران ويُسكِتونهم عن مساعدة أهل الدّار، بل وتذرّعوا بما حدث ليضغطوا على بعض الجيران كي يستقبلوا أهل الدّار كلّهم من الباب الخلفي كي يصبح البيت كلّه تحت سيطرتهم.

أعدّ الزّنابير عدّتهم، واستنجدوا بالغرباء، ومرّت قوافل نُصرتهم في سماء بعض الجيران والأقرباء على مرأى ومسمع من الجميع… قرّروا دخول آخر غرفة، ولسع كلّ من فيها حتى قطع أنفاسهم، ولكنّهم قبل ذلك عزلوهم تمامًا عن المحيط، أغلقوا نوافذهم، قطعوا عنهم الطعام والماء والكهرباء لم يرحموا طفلا ولا امرأة بل اعتبروا أهل الدّار حشراتٍ دونهم في القدر لا ذمَّة لهم ولا قيمة.

وهُنا بدأت الأصوات ترتفع حول البستان، فمن عاتبٍ:” لماذا قامَ هذا الابن بما قام؟ ألم يعلم بعاقبة فعله؟” ومن مُتملِّصٍ: ” لن نتحمل نتائج هذا الابن المتهوّر ولن نسمح للعائلة بدخول بساتيننا.. فليقتلعوا إبر الزّنابير بأنفسهم!” ومن مخوِّنٍ: “لا بدّ أنّ الزنابير اتفقت مع هذا الابن لتُتِمَّ خطّتها بالحصول على ما تبقّى من البيت.” ومن مثبّطٍ ومحبِّطٍ: “لا يمكن هزيمة الزّنابير الزّرق، أنتم تحلُمون.” ومن مُدَّعٍ باللّسان من بعيد من خلف الجدران: “نشجب ونستنكر ونطالب ونأسف…” 

وأمّا أصوات الغرباء فقد اختلفت، فمن مُتباك على الزّنابير اللطيفة التي قضت على يد الابن الضَّالّ، ومن مؤيّد للزنابير داعمٍ لهم ليستكملوا خطتهم في احتلال الغرفة الأخيرة، ومن متستِّرٍ على ما فعله ويفعله الزنابير معتبرًا إياه ليس مُبرِّرًا لما قام به الابن من الهمجية والقسوة – على حدّ تعبيرهم -، ومن مُضلِّلٍ ينشر الأكاذيب حول ما صنعه ذلك الابن من تشويه للزنابير وقصّ أجنحتها بعد القضاء عليها…

وبين جلبة الأصوات القريبة ورغاء الأصوات البعيدة برزت أصوات هنا وهناك لا تكادُ تُسمع أو يُلتفتُ إليها، بل تُطالبُ بالسّكوت وتُسكّتُ بالقوّة وتُهدّدُ في حال استمرّت بالكلام… أصوات ترفض الظّلم، أصوات تقف على  الأسباب التي أوصلت الحكاية إلى العقدة، أصوات ترفض العتب في توقيت لا ينفع فيه العتب، أصوات تدعوا في ظلمة الليل على الظّالم الغاشم وتدعوا للمظلوم صاحب الأرض والحقّ بالنصر والفرج، أصوات تطالب بفتح النوافذ والأبواب الخلفية للبيت لتتدخل وتغيّر المعادلات…

وللحكاية تتمّة، فإمَا أن تراقب – أيّها القارئُ-  ما يحدث من بعيد وتنتظر النهاية لتبكي متأخرًا وترى الزّنابير تدخل بقية البساتين واحدًا تلو الآخر، وإمّا أن تكون جُزءًا من الحكاية وتسطّر موقفك في التَّاريخ وتحتفل يوم النّصر – القادم لا محالة بإذن الله – مع المنتصرين.

 

وكتبها شادي المرعبي

في غرّة ربيع الثاني من العام 1445 هـ

قم بكتابة اول تعليق

اترُك تَعلِيقًا

لَن يَتُمَّ نَشرُ بَرِيدِكَ الإلكترُونِي فِي العَلَن