مراجعة لرواية “جمع اللون الأزرق Gathering Blue للكاتبة الأمريكية لويس لوري Lois Lowry

بعد انتهائي من قراءة رواية Gathering Blue  “جمع اللّون الأزرق” للكاتبة الأمريكية Lois Lowry، شعرتُ أنني أمام فصل آخر من فصول الرؤية العميقة التي تقدمها هذه الكاتبة لعالم الشباب، عالم يُربَّى على الطاعة دون سؤال، ويُخشى عليه من الأمل حتى لا يتجاوز الخط المرسوم له.

في هذه الرواية، لا نجد العالم نفسه الذي عاش فيه جوناس بطل “المانح”، ولكننا نلمح التشابه في الجوّ العام: قمعٌ للفرد، ومجتمعٌ يتحكم فيه الأقوياء، وصراعٌ بين العجز والتغيير. البطلة هنا فتاة تُدعى “كيرا”، يتيمة معاقة، في مجتمع لا يرى في الضعفاء سوى عبء يجب التخلص منه. ومع ذلك، تُمنَح حق البقاء لا لكرامة الإنسان، بل لحاجة المجتمع إلى مهاراتها في الحياكة والتطريز، في استعارة رمزية شديدة الذكاء: من يستطيع أن “يحوك” الماضي، يستطيع أن يتحكم في المستقبل.

ما لفتني في رواية “جمع اللّون الأزرق” أن الكاتبة لم تُقابل القبح بالجمال، بل بالعجز والاختلاف. كيرا لم تكن فائقة الجمال، ولا خارقة القوة، بل كانت ضعيفة الجسد، قوية الإرادة، تسكنها روح فنية ترفض أن تُستعبد باسم الموهبة.

الشخصية الثانية المهمة في الرواية هو توماس، فتى موهوب في النحت، يشبه كيرا في الظروف، ويشترك معها في الغموض الذي يحيط بمصير الموهوبين في ذلك المجتمع: هل هم مختارون لإنقاذ شعبهم؟ أم مسجونون في قلاع الفن المزيف؟

ثم هناك شخصيتان تُبرزان أقصى درجات الاستغلال الفني في الرواية:
المغني، وهو فنان مقيد بالسلاسل حرفيًا، يُجبر على ترديد “أنشودة التاريخ” التي تمليها عليه السلطة كل عام في احتفال رسمي، وهو تجسيد لقمع الذاكرة الجمعية وتوجيهها بما يخدم النظام.
و”جو”، الفتاة الصغيرة الموهوبة في الغناء، والتي تدرك كيرا لاحقًا أنها مسجونة في مكان ما تحت المراقبة، وتُدرّب قسرًا لتكون البديلة القادمة لهذا المغني، بما يحمل من تنبؤ مرعب بتكرار الدورة.

الرواية تطرح تساؤلات قاسية:
هل الإبداع نعمة أم لعنة إذا كان وسيلتك الوحيدة للنجاة؟
هل الفن يمكن أن يُستخدم كقيد كما يمكن أن يكون وسيلة تحرر؟
وهل من الأخلاقي أن تُسجن قلوبُ الفنانين باسم “الصالح العام”؟

كما في “المانح”، هنا أيضًا سلطة تُعمي العيون باسم النظام. يتم إيهام كيرا بأن بقاءها بحد ذاته منّة، وأن امتيازها كمطرزة مستقبل الأمة يجب أن يُقابل بالصمت، لا بالأسئلة. لكن كيرا، بعينيها اليقظتين، وبذاكرتها التي لا تخاف، تبدأ تدريجيًا بكشف التناقضات: الخوف من التغيير، تزييف التاريخ، واختفاء الأطفال المختلفين دون تفسير.

وتكتمل الدائرة حين تكتشف أن والدها، الذي قيل إنه مات، ما زال حيًّا. لحظة الكشف هذه ليست فقط صدمة عائلية، بل لحظة تمزق فيها كيرا آخر خيوط الثقة بينها وبين السلطة. لم تعد فتاة تحيك، بل فتاة تحلّ العقد، واحدة تملك القدرة على إعادة رسم الماضي بخيوط جديدة من الحقيقة لا الأكاذيب.

تُبرز الرواية أيضًا أهمية اللغة، فكما في “المانح”، يتم التلاعب بالمفردات لإخفاء المعاني وترويض التفكير. الكلمات هنا لا تعني دائمًا ما يُفترض أن تعنيه، ويُراد من الأطفال أن يحفظوا الأغاني لا أن يفهموا معانيها، أن يرددوا الألوان لا أن ينسجوا بها حقائقهم.

Gathering Blue  ليست رواية عن التمرد السريع أو الثورة الكبرى، بل عن النمو البطيء للوعي، عن سؤال خافت يتحول لصوت داخلي صارخ، عن فتاة تفهم أن التغيير قد لا يكون هروبا كما فعل جوناس، بل بقاءً وصناعةً لما بعد الكذبة.

الفن في هذه الرواية ليس فقط وسيلة تزيين، بل أداة مقاومة. والخيوط التي تمسكها كيرا بين يديها ليست خيوط قماش، بل خيوط مصير.

هذه الرّواية ورغم الاهتمام العالمي بها، وَتمثيلها في شكل مسرحي مُعدَّل، وإنشاء موسيقى خاصّة بعنوانها، غير أنها – برأيي – لا ترقى إلى مستوى “المانح” فهي لا تجذبك من أوّلها، وربما ترددت عدة مرات في إكمالها حتى بدأت الأحداث بعد الفصل الحادي عشر تنمو بسرعة وتحمل في طياتها المفاجآت. ثم إنها ولآخر لحظة لا ترابط بينها وبين أختها التي سبقتها في السلسلة حتى تحسب أنهما روايتان منفصلتان تماما لا يجمع بينهما إلا غرابة المجتمعات التي عاش فيها البطلين: جوناس وكيرا.

 

وإنِّي لترد إلى مُخَيِّلَتي، لو أنَّ كِيرَا تَعيشُ اليومَ في فِلَسطين، وتشاهد الإبادة في غزّة، لاختارت أن تُطرز التاريخ بالأحمر والأسود والأخضر، وتكتب الحقيقة بخيوط من دماء الأطفال تحت القصف، لا بألوان الأكاذيب هناك والتي يمثِّلها للأسف اللون الأزرق في عصر الصهيونية العالمية!

في رواية “جمع اللون الأزرق” وما فيه من رمزية السلام والصفاء والنقاء، كما في “المانح”، لا نخرج بإجابات جاهزة، بل بأسئلة تؤرقنا:
هل نعيش في عالم يشبه رواية؟
أم أن الروايات أمست جُزءًا من عالمنا أكثر مما نريد أن نُقرّ به؟

وكتبه شادي المرعبي في 29 يونيو 2025

قم بكتابة اول تعليق

اترُك تَعلِيقًا

لَن يَتُمَّ نَشرُ بَرِيدِكَ الإلكترُونِي فِي العَلَن