مراجعة لرواية المانح The Giver للكاتبة الأمريكية لويس لوري Lois Lowry

بعد قراءتي لرواية “المانح” للكاتبة الأمريكية لويس لوري ‎Lois Lowry أحببت أن أشارككم بعض الدروس الحياتيّة المستفادة منه ككتاب موجه لفئة الشباب من كاتبة كرّست قلمها لهذه الفئة العمرية على مدى عشرات السنين.
“‏The Giver” عنوان رواية حملت في طيّاتها انقلابا صاخبا على معايير السلطة والهيمنة ما جعله منبوذًا في بعض المدارس والمكتبات رغم شيوعه وانتشاره في العديد من المدارس الانجليزية حول العالم. وأنا هنا لا لألخصه بل لأستخرج منه بعض النقاط التي تعكس لنا الواقع الذي نعيشه برؤية أدبية.
‏جوناس، وهو الشخصية الرئيسة في الرواية استطاع لشيء فيه يجعله مختلفا عن غيره، أن يلمح أشياءً مختلفة، بدأ برؤية الألوان التي حُرم منها المجتمع والشعور بما لا يشعرون به ليتعلم بعدها قيمة العواطف بتنوع أطيافها، كالفرح والحزن والألم والبرد.. ما يجعل الإنسان مفعَمًا بالإنسانية.
‏”المانح” وهو الشخصية الثانية في القصة لم تقلّ أهميته في نظري عن جوناس وهو حامل الذكريات وناقلها… من خلاله تدرك أهمية أن يكون للمجتمعات ذاكرة تمنحها سياقا لحياتها لتتعلّم من الماضي مهما كان صعبا ومُرًّا.
‏يكتشف جوناس أن اتباع السلطة بشكل أعمى يؤدي إلى فقدان الفردية، فيبدأ بالتشكيك في القواعد والأنظمة تمهيدا للتخلص منها والهروب من سطوتها طالما أنها لا تتماشى مع القيم الأخلاقية والإحساس بالصواب والخطأ.
‏المجتمع في “المانح” يقمع الفردية للحفاظ على النظام ويتدخل حتى في الألفاظ البسيطة مستبدلا إياها بمفردات أخرى تزيد التعلق بالسلطة والفجوة بين أفراد الأسرة الواحدة من ناحية والمجتمع كله من ناحية أخرى. ولك أن تتخيل أن لفظة “أحبك” مُجَرَّمةٌ عندهم! و‎‏يدرك جوناس بعد صراع داخليٍّ صعب أن الحرية في اتخاذ القرارات، حتى الصعبة منها، هي ما يجعل الحياة ممتعة ذات مغزى، وأن الحرية مسؤولية كبرى قد تودي بصاحبها للملاحقة والمُساءلة.
‏الكتب التي كانت محظورة عن المجتمع بمجملها كانت تمثل العلم، ذلك العلم الذي يخافه رعاة الجهل وتحذر منه أنظمة القمع، ولا يقدر على حمله أيّ أحد، بل فئة قليلة من المثقفين وهواة العلم، لذلك استسلمت “روزماري” وطلبت التنحي مع علمها بحقيقة التنحي التي تُحجب عن العوام.
‎‏دون تعاطف، المجتمع يصبح باردا متقطع الأواصر، مما يسيءإلى إنسانية الإنسان ويطعن بها (‎غزة نموذجا) بل يصبح الموت (كما في الرواية) أمرا عاديا لا يؤثر فيمن يراه أو ينفِّذه… لأنه باختصار سُمّي بشيء آخر لا يشبه الموت! حتى جوناس نفسه لم يدرك حقيقة ذلك إلى أن رآ
طالما أنّه لا يمكن خلق الإبداع في نفوس البشر واحدًا واحدًا، فالاختلاف نعمة والفرديّة قوّة في عالم الناس فيه متشابهون. اختلافاتنا تجعلنا أقوى وأكثر ابتكارًا وأعمق فهمًا.
يتضح من خلال الرواية أن السلطة استطاعت إقناع الناس بما اختير لهم، بعبارة أخرى إقناعهم بحياة دون اختيارات، فمجتمع جوناس قائم على الرضا بالواقع لا السعادة الحقيقية أو الاكتفاء، ‏كما ويتضح كذلك أن السلطة نفسها كانت تظن ذلك خيرا لمجتمعها، أي أنها لم تقصد إيذاءهم بما اختارت لهم بل حسبت-جهلا- بأنها تختار لهم الأفضل لذلك كانت تتشدّد مع المخالفين لنظامها.
الألم، على رغم صعوبته فهو ضروري لتنبيه الإنسان للخلل الجسدي أو النفسي الذي يمرّ به، لذلك فهو ضرورة لنمو الشخصية. والكتمان، نوع من الألم. لذا حين طُلب من جوناس أن يمتنع عن أخذ العلاج إن أصيب خلال التدريب، أو مشاركة ومناقشة تدريبه مع أحد، غرق وحده في الألم الذي جعله استحقّ بطولة القصة.
رمزيّة الألوان في الرواية مهمة جدّا… فاللون الواحد المفروض لا يجعلك تنتبه لوجود ألوان أخرى، والحرمان من أبسط الملذات كالإحساس بالحب أو الريح الباردة أو التزلج حرمان من ملذات الحياة التي يقاتل المرء للحفاظ عليها.
المتابع لأحداث الرواية يعلم جيدا أن فئة “الأكابر” الحاكمة لا ترجع للمانح إلا نادرًا رغم علمهم بعلمه وحكمته، ولكنهم يغلّبون آراءهم الشخصية ويعبدون النظام الذي صنعوه بأنفسهم كتمثال حجري لا يمكن المساس به.
نقطة التّحوّل الكبير في الرواية ترتبط بالتعرّف على القتل (وليس الموت)، كانوا يسمعون عن أناس رحلوا لكن لا يعرفون كيفية رحيلهم، ويُمنعون من ذكرهم بعدها… لكن رؤية جوناس لذاكرة الحرب، ولِما قام والده به مع الطفل التوأم جعله يدرك قباحة الجهل الذي يعيشه مجتمعه.
‏كان يمكن لجوناس أن يعيش حياة مختلفة يتمتع وحده بما علمه ولم يعلمه غيره، ولكنه اختار أن يجاهد لكي يوصل ما تعلمه للآخرين، وهنا يبرز عبء المسؤولية والإحساس بالواجب تجاه الآخرين حتى وقد حاربوه لظنهم أنه يسعى للشرّ. فالغرق في الباطل يجعل الغارقين لا يبصرون الشمس فوق سطح الماء.
الحب، كان الحافز الكبير الذي دفع جوناس للمغامرة، حبّ أسرته الصغيرة، حبّ صديقته فيونا وصديقه أيشر، حبّ الطفولة المتمثّلة بغابريال… هذا ما جعله يخوض التجربة دون تراجع وهذا ما ذلل كل المصاعب في وجهه.
‏”ربّ تلميذ فاق أستاذه” هذا المعنى يتضح من خلال تفوّق جوناس على معلّمه المانح بشيء واحد فقط: الشجاعة.
لقد كان المانح يفتقر للخطوة التي اتخذها جوناس رغم دعمه ومساندته له… كان يملك العلم ولكنه لا يملك المقدرة أو المحاولة على الأقل، وهذا ما يميز ‎المقاوم عن القاعد أو الطاعن.
‏تمّ إصدار فيلم “The Giver” عام ٢٠١٤ استنادا على القصّة، لكنّه احتوى على دراما وإضافات لم تُذكر في الرواية، كما اختصر تفاصيل كثيرة لها قيمتها في الرواية، لذلك لا أنصح بمشاهدته -على الأقل -ليس قبل قراءة القصة كاملة.
صدر للكاتبة نفسها رواية خيالية بعنوان “عد النجوم” تحمل على غلافها ‎نجمة داود وتروي قصة هروب عائلة ‎يهودية من ‎كوبنهاجنالدنمارك أثناء ‎الحرب العالمية الثانية
حصلت الرواية -كما كان متوقعًا- على ميدالية نيوبيري عام ١٩٩٠
وأظن أنها لو اطلعت بحيادية على ما يجري في ‎فلسطين منذ سنوات و ‎غزة مؤخرا لكتبت روايات حقيقية لا خيالية عن الواقع هناك، ولعلها تُعذر حاليا بكبر سنّها الذي جاوز ال ٨٧ سنة.
وكتبه شادي المرعبي غي 15 أكتوبر 2024

قم بكتابة اول تعليق

اترُك تَعلِيقًا

لَن يَتُمَّ نَشرُ بَرِيدِكَ الإلكترُونِي فِي العَلَن